جلس عبَّاس الأوَّل على عرش الدَّولة الصفويَّة إبان اضطراباتٍ كانت تعصف بِالبلاد، نتيجةً لِلصراع بين فصائل القزلباش، فكانت والدتُه «خير النساء بيگم» وأخوه الأكبر «حمزة ميرزا» من ضحايا ذلكُم الصراع، فاستغل أعداء الدَّولة الصفويَّة من عُثمانيينوأوزبك تلك الفوضى السياسيَّة واستولوا على أجزاء من الأراضي الصفويَّة. ومع خاتمة سنة 995هـ المُوافقة لِسنة 1587م انقضى مُلك أبيه محمد خُدابَنده، وترك لِعبَّاس تدبير شؤون البلاد والعباد، حيث التفَّ حوله قادة القزلباش.[14] استطاع الشاه عبَّاس أن يُنهي الفوضى التي مزَّقت البلاد وسار بالإمبراطوريَّة الصفويَّة إلى ذروة القوَّة والازدهار.[15] خلال السَّنوات الأولى من حُكمه عمل على إنهاء المُشكلات الداخليَّة وتمكَّن من إنهاء التمرُّدات، ثم توجَّه لِقتال الأوزبك وألحق بِهم الهزائم في معارك عظيمة انتهت بِتحرير الأراضي الصفويَّة.[16] ثم توجه الشاه لِقتال العُثمانيين والتقى الجمعان في عدة معارك تمكَّن فيها الصَّفويون من استعادة أراضيهم المُحتلِّة.[17][18] وقاد الفُتوحات فَدانت له الدِّيار القوقازيَّة، ودخلت جُورجيا تحت جناح الدَّولة الصفويَّة،[19] وامتد حُكمه إلى العراق[20] وشرق الأناضول حتى بلغ بالمُلك حُدود الشَّام وما وراء داغستان. حارب مغول الهند وتمكَّن من الانتصار عليهم وإخراجهم من الدِّيار الأفغانيَّة وفتح قندهار، وتمكن من طرد الپُرتغاليين.[21] كانت هذه الانتصارات نتيجة للإصلاحات العسكريَّة والسياسيَّة التي أدخلها عبَّاس الأكبر إلى الدَّولة، فَبلغ بِذلك أقصى اتِّساع لِلإمبراطوريَّة في تاريخها.
كان عبَّاس الأكبر مُتدينًا ومتمسكًا بِالعقيدة الشيعيَّة، ويمتلك شخصية كاريزميَّة قويَّة وخطيبًا بليغًا يؤثِّر في نُفوس سامعيه[22] ويتحدَّث بِاللُّغات: الأذريَّةوالفارسيَّةوالجورجيَّة، وقد كان راعيًا عظيمًا لِلعمارة والفنون والأدب، يُجالس العُلماء والمُستشارين، وكان مُحببًا لدى الرَّعية يتحرَّى حُسن الحال فيها.[23] نقل عاصمته إلى مدينة أصفهان وارتقى بِعُمرانها حتَّى وصلت مقامًا رفيعًا من الجمال وعلى إثر ذلك ظهرت العبارة: «أَصْفَهَان نِصْفُ الدُّنِيَا»[24] فما انفكَّ اسم هذه المدينة يرتبط بِالشَّاهنشاه عبَّاس الأكبر، نشر أسباب العُمران في البلاد وأقام المساجد والمدارس والقُصور والطُّرُق وبنى ألف خان وعمَّر المُقدَّسات الشيعيَّة في إيران والعراق. شهدت الدَّولة في فترته ازدهارًا تجاريًا واقتصاديًا ويوصف عهده بأنه «عصر ذهبي» لا زال يحظى بِالتَّكريم لِكونه نبراسًا لِلمجد والعظمة والرَّخاء.[25][26]
حياته المُبكرة
ولادته ونشأته
نقل المُؤرِّخ إسكندر بك مُنشي في كتابه «نظرة العبَّاسي لِلعالم» أن عبَّاس الأوَّل قد ولد في 1 رمضان978هـ المُوافق فيه 27 كانون الثَّاني (يناير)1571م[27] في مدينة هراة في خُراسان[ا] خلال ولاية أبيه مُحمَّد خُدابنده على تلك الدِّيار[28] وكان الأخير محرومًا من خلافة والده طهماسب الأوَّل بِسبب مرض جعله شبه أعمى.[29] والدته هي «خير النِّساء بيگُم» التي تنتمي لسُلالة من أُمراء مازندران حيث يصل نسبها إلى «مير بُزُرڨ» مؤسِّس الدَّولة المرعشيَّة.[30] له خمسٌ من الإخوة وهم: حسنوحمزةوأبو طالب وطهماسب وكان عبَّاس ثالثهم في الترتيب.[31] بُعيد مولد عباس أرسل والده مُحمَّد خُدابنده رسالة إلى الشَّاه طهماسب الأول وأعلنها شاهقُلي سُلطان يكان استاجلو، وفيها يُبلغ مُحمَّد أباه بولادة عبَّاس ويطلُب من الشاهنشاه طهماسب أن يصطفي اسمًا لِحفيده؛ فسمَّاه «عباس» مُستلهمًا ذلك من أبيات شعريَّة تدفَّقت على لسانه مرارًا:[32][33]
عباس علی است شیر غازی
سر دفتر لشکر حجازی
عندما كان عمر عبَّاس 18 شهرًا قدِم والداه من هراة إلى شيراز بسبب مُتطلَّبات الحُكم، وبذلك أُسنِدَت الولاية الشرفيَّة على مدينة هراة إلى عبَّاس.[34][27] ابتداءً، كان مُراد الشَّاه طهماسب تعيين الشَّاهزاده حمزة حاكمًا على هراة لكن خير النِّساء بيگُم لم ترغب في ترك ابنها حمزة الذي كان مُحببًا لديها، وعليه قام الشَّاه طهماسب بتعيين عبَّاس بدلًا من شقيقه.[31] وعلى الرغم من كون الشَّاهزاده عبَّاس طفلًا إلا أن ذلك لم يكُ عائقًا أمام الحُكم في هراة فقد سبق أن تم تنصيب جدِّه طهماسب حاكمًا على خُراسان وهو في الثانية من عمره.[35][36] أضحى شاهقلي سلطان يكان استاجلو وهو من أمراء القزلباش وصيًا على عباس وحاكمًا فعليًا لهراة[31] فقُدِّر لعباس أن لا يرى والدته مرة أخرى ولم يلتقِ بأبيه محمد خدابنده إلا بعد خمسة عشر عامًا.[31] تدارس العلوم وتعلم المهارات العسكرية من أشياخه، وكان مثله مثل مُعظم مُلُوك إيران مولعًا بالصيد الذي يُعتبَر نوعًا من التدريبات العسكريَّة.[37]
كان عهد الشَّاه الجديد إسماعيل الثَّاني قصير الأمد ودَمويًا، حيث جعلتُه سنوات السجن الطَّويلة يَرى من الآخرين موضع الشَّك ومنزل الضَّغينة[40] فقام بِتصفية لِأفراد أستاجلو الذين دعموا حيدر ميرزا في مُبتغاه لاعتلاء العرش الصَّفوي[41] شهد الأمير الشَّاب عبَّاس هذه المجازر وتأثَّر بِها بِشكلٍ مُباشر.[40] أمر هذا الشَّاه بِإعدام العديد من إخوته غير الأشقَّاء وبني عُمُومته وبني إخوته.[42] إلا أنَّه امتنع عن قتل مُحمَّد خُدا بنده لأنه كان أخاه الشَّقيق كما لم يكُن مُحمَّد خُدا بنده يُشكِّل خطرًا على مُلك إسماعيل بِسبب عماه.[40] ومع ذلك في تشرين الثَّاني من سنة 1577م تلقَّى عليقُلي خان شاملو أوامر من الشَّاه إسماعيل الثَّاني بالسَّير إلى هراة لِقتل الشَّاهزاده عبَّاس.[43] إلَّا أن عليقُلي خان قام بِتأخير إعدام عبَّاس؛ وكانت ذريعته في ذلك: أنَّه من غير السَّار قتل أبناء السَّادة الأبرياء في الأيام المُقدَّسة، ويعني العيدين وهُما: الفطر والأضحى. أنقذ هذا التَّأخير حياة الشَّاهزاده عبَّاس فقد توفي الشَّاه إسماعيل الثاني في اليوم الرَّابع والعشرين من نفس الشَّهر أي تشرين الثَّاني وقُدِّر لِلأمير الصَّفوي أن يعيش. وتولَّى عليقُلي خان شاملو حُكم هراة والوصاية الجديدة على عبَّاس.[44]
الاضطرابات الدَّاخليَّة ومقتل والدته
في 11 أو 13 شباط (فبراير)1577م جلس مُحمَّد خُدابنده على عرش الدَّولة الصفويَّة وهو والد الشَّاهزاده عباس.[45] وبِسبب مرض الشَّاه الجديد مُحمَّد خدابنده أضحت الإدارة الفعليَّة بين يدي من هو سواه.[46] كانت والدة عبَّاس خير النِّساء بيگُم سيِّدة قويَّة الإرادة ومُؤثِّرة سياسيًا وعسكريًا وقد أثار ذلك حفيظة أمراء القزلباش. كما أدَّى الشِّقاق في البلاط إلى قيام التَّمردات في أقطار البلاد المختلفة، تصاعد الصِّراع بين فصائل القزلباش وسُرعان ما اندلعت مُواجهات بين استاجلو وشاملو.[47] استشعر الشَّاه مُحمَّد خُدابنده وزوجته الملكة أن القائد عليقُلي خان سوف يتآمر لِوضع الشَّاهزاده عبَّاس على العرش فَأرسل الشاه رسالةً إلى عليقلي يأمره بإحضار عبَّاس إلى قزوين. لكن أمراء القزلباش في خُراسان اعتقدوا أن وجود أمير صفوي في العاصمة الخُراسانيَّة هراة من الضَّرورات بِسبب تهديدات أوزبك بُخارى بِمُهاجمتها.[27]
مع فترة الضَّعف التي أصابت الحُكُومة الصفويَّة اغتنم أعداؤها الفُرصة لإعلان الحرب حيث أعلن العُثمانيُّون حربًا على الدَّولة الصفويَّة في سنة 1578م تكبَّدت خلالها العساكر الصفويَّة خسائر عدَّة إلى أن شنُّوا هُجومًا مُضادًا قاده كلٌ من ولي العهد حمزة ميرزا والوزير الأعظم ميرزا سلمان جابري والملكة خير النِّساء بيگُم لِمُواجهة الجُند العُثمانيين والتَّتار في شروان. لكن مُحاولة الملكة خير النَّساء في تحديد استراتيجيَّة الهجمات أثارت غضب أمراء القزلباش[48] فتآمرت جماعة من القزلباش لِقتل الملكة خير النِّساء بيگُم وداهموا مقرَّ إقامتها وقتلوها في 1 جُمادى الأولى987هـ المُوافق فيه 26 تمُّوز (يوليو)1579م.[49][50] وعلى الرَّغم من أن عبَّاس كان صبيًا إلَّا أن مقتل والدته على يد القزلباش ترك انطباعًا عميقًا في نفسه، ولعلَّه اعتقد منذ ذلك الحين أن قوَّة القزلباش يجب أن تُكسر.[51]
يمينًا رسمٌ للشاه مُحمَّد خدابنده الشاه الرابع للدَّولة الصفويَّة وأبو الشاه عباس، وإلى اليسار رسمٌ يصور شقيقه الشاهزاده حمزة ميرزا الذي قُدِّر له أن يحظى بِولاية العهد.
بُعَيد مقتل الملكة خير النِّساء بيگُم تم تنصيب الشَّاهزاده حمزة ميرزا وليًا للعهد وكان له من العُمر أحد عشر عامًا.[52] لم يكن لدى القزلباش أي تخوف من مُلك حمزة، وظفروا بالسُلطة العُليا في الحُكُومة الصفويَّة واندلعت بينهم الصِّراعات للحُصُول على مزيد من السُلطة والمَقدرة.[53] وقد اشتدَّ لظى تلك النزاعات في بلاط قزوين وبلاط خُراسان. ففي خُراسان: كان «عليقُلي بك گوركان شاملو» وحليفه «مُرشد قُلي خان استاجلو» يخوضان غِمار الحرب ضد «مُرتضى قُلي خان پرناك» حاكم مشهد.[54] أما في قزوين: سيطرت عشيرة تكلو القزلباشيَّة على السُلطة في العاصمة قزوين وقتلوا عددًا كبيرًا من الشخصيَّات البارزة من عشيرة شاملو وكان من بين الضحايا هما والد عليقُلي بك وأمَّه، أثار ذلكُم سخط عليقُلي بك شاملو وفعل ما تنبَّأت به الملكة خير النِّساء بيگُم حيث نادى بِعبَّاس شاهًا لِلدولة الصفويَّة في 1581م وكان له من العُمر عشر سنوات، وخاض غِمار الحرب في خُراسان لِتنصيب عبَّاس على العرش الصفوي.[54] سيطر عليقُلي بك ومُرشد قُلي خان على نيسابور وفيها سكَّوا العُملات المعدنيَّة وألقوا الخطبة باسم الشاه عبَّاس.[27]
في العام التَّالي تقدَّم جيش من غرب البلاد سائرًا نحو خُراسان في مشرقها لِحل الوضع. حاصرت تلكُم العساكر مدينة «تُربت حيدريَّة» وكان فيها مُرشد قُلي خان استاجلو، ومدينة هراة حيث أقام عبَّاس وعليقُلي خان بك شاملو لكن كِلتا المُحاولتين لم تُجديا نفعًا.[55][56] أثناء ذلك شن العُثمانيون هُجومًا آخر على شمال غرب البلاد وما إن بلغ الخبر مسامع أمراء الحرب توصَّلوا إلى اتفاق مع القائد علي قُلي بك شاملو وعليه أعفي الأخير من العقاب ولم يكُن عليه سوى أن يعترف بالأمير حمزة ميرزا بِاعتباره وريثًا ظاهرًا للعرش. وقد ظلَّ عليقُلي بك حاكمًا ووصيًا على عبَّاس ميرزا ونال مُكافاة من الشَّاه. قام مُحمَّد خُدابنده بِإزاحة مُرتضى قُلي خان پرناك من حُكم مشهد وهو العدو القديم لِعليقُلي بك، ونصَّب أميرًا من الاستاجلويين بديلًا عنه في حُكم مشهد. بِحسب اسكندر بك مُنشي أنَّ كثرةً من القوم اعتقدوا أن ادِّعاء عبَّاس ميرزا سَيسُود على ادِّعاء حمزة ميرزا.[57]
اغتيال ولي العهد حمزة ميرزا
حينذاك كان ولي العهد حمزة ميرزا يقود جيشًا لِطرد العُثمانيين من تبريز.[58] وقد أمر بإعدام أحد أمراء القزلباش في البلاد الأذربيجانيَّة فأثار ذلك استياء ضُبَّاطه.[59] ونتيجة لما سلَف اغتيل ولي العهد حمزة ميرزا في كنجه بِتاريخ 28 ذو الحجَّة994هـ المُوافق فيه 10 كانون الأوَّل (ديسمبر)1586م، ويُعتقَد أن القاتل تلقَّى رشوة من زُمرة من المُتآمرين. وقد مهَّد اغتيال حمزة الطريق لصُعُود عبَّاس ميرزا.[60]
تربُّع عبَّاس الأوَّل على العرش
في خُراسان احتدم التَّنافُس بين القائدين مُرشد قلي خان وعليقُلي خان بك فيما يُسمَّى بِـ«حرب سوسفيد» حيث تمكَّن مُرشد قُلي خان من الاستيلاء على مشهد واختطاف عبَّاس ميرزا.[61] فأرسل مُرشد قُلي خان رسالةً إلى النُبلاء في قزوين يسألُهُم عن احتمال دعمهم لعبَّاس كمُرشَّح للجُلُوس على العرش، وقد تقبَّلوا هذا المَسعى إلا أنهم شكَّكوا في قابليَّة تنفيذه بِأنفُسهم. كان مُرشد قُلي خان يُناقش فكرة القيام بِالمُخاطرة والسَّير نحو قزوين لتنصيب عبَّاس شاهًا للدَّولة؛ فجاءت الهجمات الأوزبكيَّة في شهر مُحرَّم995هـ المُوافق فيه كانون الأوَّل (ديسمبر)1586م وحسمت الأمر. ومع تقدُّم هجمات الأوزبك سقطت مدينة هراة في أيديهم، عرَّض هذا الحادث موقف مُرشد قُلي خان للخطر حيث أدرك أنَّه قد يفقد عبَّاس مع تصاعُد تِلك الهجمات، فرأى أن هَذه كانت فُرصته الأخيرة لِوضع عبَّاس على تخت المُلك.[62]
قدَّم العديد من أمراء القزلباش تأكيدات بِدعمهم لِعبَّاس ميرزا، فأبلغ الشَّاه مُحمَّد خُدابنده القائد مُرشد قُلي خان أن يتعامل مع المُتمردين، مُقررًا الهُجُوم.[56] وفي الأيام العشرة الأولى من شهر رمضان من سنة 1586م قرَّر عبَّاس ميرزا مع وصيِّه وجماعة قليلة من رِفاقه السَّير إلى قزوين، ولم يتجاوز تعدادهم بضع مئات من الفُرسان[63][64] وعند عُبُورهم طريق الحرير جاء عدد من أمراء القزلباش من تكلو وأفشار وذو القدر الذين حكموا عدَّة مُدُن مُهمَّة على طول الطَّريق وقدَّموا الولاء لِعبَّاس، ومع اقترابهم من قزوين زادت قوَّتهم الصَّغيرة وبلغت 2,000 فارس مُسلَّح. ابتداءً، أظهر شهردار قزوين[ب] وأمراء القزلباش مُقاومةً داخل العاصمة، لكنَّ حُشود المُواطنين والجُند الذين أرادوا منع الحرب خرجوا وأعلنوا تأييدهم لِعبَّاس؛ وعلى أثر ذلك تخلَّى الشهردار وأمراء القزلباش عن مُقاومتهم وتوجَّه عبَّاس نحو العاصمة يُرافقه مُرشد قُلي خان في أواخر شهر تشرين الأوَّل (سبتمبر) من سنة 1587م.[56] كان الشَّاه مُحمَّد خُدابنده مع ولي عهده أبو طالب ميرزا وعدد من حاشيته من استاجلو وشاملو يُعسكرون على بُعد مائتي ميلٍ من قُم. وعندما وصلتهم الأخبار، قرَّر النُبلاء التخلِّي عن دعم الشَّاه ووريثه لِصالح عبَّاس ميرزا.[65] على أثر تلكم المواقف قرر الشاهنشاه مُحمَّد خُدابنده التنحي عن العرش لصالح ولده.
كانت الإمبراطوريَّة التي ورثها الشاه عبَّاس في حالة يُرثى لها بِسبب استيلاء العُثمانيين على أراضٍ شاسعة في الغرب والشَّمال الغربي ووقوع مدينة تبريز الكُبرى في أيدي العُثمانيين، بِالإضافة إلى الغزو الأوزبكي لِنصف الدِّيار الخراسانيَّة. وكانت إيران نفسها مُمزَّقة بِسبب القتال بين فصائل القزلباش الذين استخفُّوا بِالسُلطة الشاهانيَّة لمَّا سوَّلت لهم أنفُسُهم قتل الملكة «خير النساء بيگم» (926هـ \ 1548م - 958هـ \ 1579م) واغتيال الوزير الأعظم «الميرزا سلمان جابري الأصفهاني» سنة 991هـ المُوافقة لِسنة 1583م. ابتداءً، اقتص الشاه عباس من قتلة والدته فَأعدم ثلاثةً من قادة المُؤامرة ونفى أربعةً آخرين.[68] كان مسعاه التَّالي هو التحرُّر من السُلطة الفعليَّة لِلوكيل مُرشد قُلي خان استاجلو الذي أقدم على تعيين صحبه في المناصب الحُكُوميَّة الرَّفيعة وتقييد سُلطة عبَّاس الشاهنشاهيَّة في القصر.[69] وحينذاك كان الأوزبك يواصلون غزوهم لِخُراسان، وقد وصل إلى مسامع الشاه عبَّاس أن صاحبه القديم عليقُلي بك شاملو مُحاصرٌ في هراة فطلب الأوَّل من مُرشد قلي خان التحرُك. لكن مُرشد لم يستجب لِذلك خوفًا من مُنافسه عليقُلي بك، ولم يفعل شيئًا حتى وصل الخبر بِسُقُوط هراة ووقوع مذبحة في تلك البلاد ومقتل القائد «عليقُلي بك گورگان شاملو» في أواخر ربيع الأوَّل997هـ المُوافق فيه شباط (فبراير)1589م. عندها فقط سار مُرشد قُلي خان في حملة نحو الديار الخُراسانيَّة.[70] لكن الشاه عبَّاس أراد الانتقام لِمقتل عليقُلي بك؛ رَّتب الأمر مع أربعة من أمراء القزلباش وأمر بقتل مُرشد قُلي خان استاجلو في 23 تموز (يوليو)1589م. وبِمقتل مُرشد قُلي خان تمكَّن الشاه عباس من إحكام سُلطانه على إيران ويبدأ حُكمه المُنفرد.[71][72][73]
منذ قيام الدَّولة الصفويَّة كانت قوَّة القزلباش هي أساس الجُيُوش الصفويَّة وقد تقلَّدوا العديد من المناصب الحُكوميَّة المُهمَّة، ونتيجة لما سلف كان الشاه عاجزًا في بعض الأحيان؛ سعى الشاه عباس لمُوازنة القوى وكَحل حاسم لِتلك المُشكلة اعتمد على الأفراد الجُدُد في المُجتمع الإيراني وهم «الغلمان» وأنشأ منهم قوَّة عسكريَّة بلغ تعدادها 37,000 مُقاتل بِتمويل كامل من التَّاج، وقد أدَّى ذلك للحد من القوَّة القزلباشيَّة مُقابل السُلطة الشاهنشاهيَّة، وانقضى «احتكارهم العسكري» في الدَّولة الصفويَّة.[74] سُميت هذه القوَّة الجديدة بِـ«غلامان خاصه شریفه» وكان مُعظمُهمُ من الشراكسةوالأرمن والكرج الذين جيء بهم إلى الديار الإيرانيَّة واعتنقوا الإسلام. اشتغلوا بالأعمال العسكريَّة والمدنيَّة وكان ولاؤهم فقط لِلشاه.[75][76] خلال حُكم عبَّاس الأكبر نمت هذه الجماعة الجديدة على صعيد النُفوذ والقوَّة حتَّى صار يُطلق عليها «القوة الثالثة» وأصبح قومٌ من الشَّراكسة والكرج والأرمن جزءًا لا يتجزأ من المُجتمع الإيراني وتقلَّدوا مناصب حُكوميَّة وشاهانيَّة وعسكريَّة.
لقد نظر الشاه طهماسب الأول (919هـ \1514م - 984هـ\ 1576م) وهو الشاهنشاه الصَّفوي الثاني، إلى إمبراطوريَّته ودولة العُثمانيين المُجاورة فأدرك أنه يواجه تهديدات مُستمرَّة بسبب الفصائل المُتنافسة التي شكَّلت مُجاراة له بِاعتباره رأس الدَّولة. وإن لم تتم إدارتها بِشكل صحيح فقد تُصبح تهديدًا خطيرًا يُحيط بالحاكم وتؤدي إلى مُؤامرات في البلاط. من مرأى طهماسب كانت المُشكلة تدور حول النُخبة العسكريَّة لِلإمبراطوريَّة وهم القزلباش، حيث اعتقد القزلباشيون أن القُرب من أحد أفراد البيت الصفوي والسَّيطرة المُباشرة عليه تمنحُهم تميُزًا رُوحيًا وثروة سياسيَّة وتقدُمًا ماديًا.[77] ولِذلك قام الشَّاه طهماسب بين عامي (1540 - 1555) بِسلسلة من الفُتُوحات في الدِّيار القوقازيَّة، وقد أضفت هذه المعارك خبرة قتاليَّة لجُنده وعساكره وأدَّت إلى أسر أعداد هائلة من الشَّراكسة والأرمن ويُذكر أن تعدادهم بلغ ثلاثين ألفًا في أربع غارات فقط.[78] ستُشكِّل هذه المجموعات الأساس لِمنظومة الغُلمان العسكريَّة الصفويَّة.[79] ونتيجة لما سَلَف نشأ مُكوِّن جديد في المُجتمع الإيراني يتألَّف من العرق القوقازي، لم يتم تنظيم الجنود الغُلمان الأوائل إلى أن جلس الشاه عبَّاس على تخت المُلك، ولكن سبق أن بلغ القوقازيُّون مكانةً مرموقةً في عهد الشاه طهماسب الأول سواء في الإدارة المدنيَّة أو العسكريَّة وحتى الحرملك والبيت الحاكم.[80][81]
سار الشاه عبَّاس على خُطى جدِّه طهماسب الصفوي وقرر دعم تلكُم الجماعات القوقازيَّة الجديدة، حيث أدرك أهميَّة فرض سُلطته الشاهانيَّة على القزلباش أو البقاء دُمية بين أيديهم. وعليه شجَّع عبَّاس تصاعُد النُفُوذ والقوة لهذا التكتُل الجديد الذي سَيُعرَف بِتسمية «القوة الثالثة» وحصل عددٌ كبيرٌ منهم على أدوار في المُجتمع الإيراني وشغلوا مناصب عُليا في الدَّولة بما في ذلك فيلق الغُلمان الذي قام عبَّاس بِتوسيعه إلى خمسة عشر ألف فارس مُدرَّبين تدريبًا عاليًا[82] كَجُزء من فرقة جيش كاملة بلغ قوامُها أربعين ألفًا من القوقازيين. ثم قام عباس الأوَّل بِتنحية عدد من حُكَّام المُقاطعات الذين ينتمون إلى القزلباش ونقلهم إلى مواضع أخرى وقطع علاقتهم بِالمُجتمع المحلي وحدَّ من سُلطانهم، وحلَّ محل مُعظمِهم قادةٌ من غُلمان القوقازيين الذين كان ولاؤهُم للذات الشاهانيَّة الصفويَّة. بِحُلُول سنة 1595م أضحى القائد اللهوردي خان واحدًا من أقوى رجال الدَّولة في الإمبراطوريَّة الصفويَّة، وكان من الجورجيين. حيث تم تنصيبه حاكمًا لمقاطعة فارس وهي من أغنى المقاطعات في بلاد فارس، وبلغت قوَّته ذروتها سنة 1598م عندما أصبح القائد الأعلى للقوَّات المُسلَّحة الصفويَّة.[83]
لم يمنح نظام الغُلمان للشاه إمكانيَّة فرض سُلطته على المُنافسين والقزلباش فقط، بل وجد حلًا لِلمُشكلات الماليَّة ولو على المدى القصير[84] وذلك من خلال استعادة السيطرة الكاملة على الأقطار التي حكمها أمراء القزلباش سابقًا، أضحت الإيرادات الماليَّة مُكمِّلة لِلخزانة الملكيَّة ومُنذ ذلك الحين ابتدأ المسؤولون بِجمع الضَّرائب وإرسالها مُباشرةً إلى الخزانة الملكيَّة. وفي الحرملك حل الشَّراكسة والكرج بِسُرعة محلَّ الفصائل التُركمانيَّة. ونتيجة لما سلَف؛ اكتسبوا نُفُوذًا كبيرًا في البيروقراطيَّة الصفويَّة الجديرة والبلاط.[85][86] وبعد انتهاء الدولة الصفوية لم تعمل منظومة الغُلمان بنفس الكفاءة التي كانت عليها في أيام الصفويين، إلا أنهم لعبوا دورًا حاسمًا خلال بقية العصر الصفوي وحتى سُقوط السُلالة القاجاريَّة في 15 كانون الأوَّل (ديسمبر)1925م.[87]
في سنة 1001هـ المُوافقة لِسنة 1592م عقد الشاه عبَّاس العزم على تحرير الدِّيار الخُراسانيَّة من غزو الأوزبك المُتمثِّلين بالدَّولة الشيبانيَّة، فخرج الشاه من قزوين متوجهًا إلى بسطام، وحينها وصلت رسالة إلى الشاه عباس من عبد المؤمن الشيباني وهو الخان الأوزبكي (1006هـ \ 1598م - 1006هـ \ 1598م) وقد كان في نيسابور، طلب فيها من الشاه إلغاء المعاهدة التي عُقدَت بين حسن بك آق قويونلو والأمير حُسين بايقرا حول حدود عراق العجم وخُراسان، وترك شمارد والدَّيار الخُراسانيَّة؛ فردَّ عليه الشاه عبَّاس الأكبر أن لا علاقة له بِتلك التَّسوية، وأنه سيُواجهُه قريبًا في ساحة المعركة. بعد ذلك سار الشَّاه من بسطام نحو نيسابور حيث كان يُقيم عبد المُؤمن خان، وما إن وصل الشاه عبَّاس إلى جاجرم حتَّى كتب إليه الخان الشيباني عبد المُؤمن بأنه تاركٌ نيسابور، وسائرٌ إلى جام. فدانت للشاه أقطار تلك البلاد وتمكن من فتح مزينان وسبزوار وجاجرم ونيسابور ونصَّب حُكامًا على جميع تلكُم الأراضي، لكن بسبب شتاء خراسان القاسي أجَّل عباس الأكبر سيره وعاد إلى العاصمة قزوين.[88]
في غُرَّة سنة 1004هـ المُوافقة فيه أيلول (سبتمبر)1595م، حشد الشاه عبَّاس جيشًا مرَّة أخرى وسار إلى خُراسان حتَّى بلغ مُحيط إسفرايين وكانت تحت حِصار الأوزبك بِقيادة عبد المُؤمن خان الشَّيباني. وما إن سمع عبد المُؤمن بِوصول جيش الشَّاه حتَّى فرَّ هاربًا إلى مشهد ثم بلخ. وعادت إسفرايين لتنضم تحت جناح الشاهانيَّة الصفويَّة؛ ثم اتخذ الجيش الصفوي الطريق إلى استراباد بدلًا من سبزوار ومشهد ومُطاردة عبد المُؤمن خان. لكن لمَّا سمع الأخير رحيل الجُيُوش الصفويَّة عاد إلى خُراسان وارتكب مذبحة في سبزوار. وحين علم الشاه عباس الأكبر بذلك قاد الجُيُوش الصفويَّة وسار إلى سبزوار، فهرب عبد المؤمن مرَّة أخرى. وتولَّى إدارة مدينة سبزوار أحد أمراء القزلباش. ومن ذلك العام حتى سنة 1007هـ الموافقة فيه 1598م، بقي جزء من الديار الخُراسانيَّة في أيدي الأوزبك. وفي هذه الفترة، كان الشاه عباس الأول منشغلًا بإنهاء التمرُّدات في مازندرانوكيلان ولرستان. وإبَّان ذلك كان هنالك صِراعٌ بين عبد الله خان الثاني الأوزبكي وابنه عبد المُؤمن خان على العرش، وكادت الحرب تندلع بينهما. لكن مع وفاة عبد الله خان استقل عبد المُؤمن بِالحُكم واستوى على تخت المُلك وقام مقام والده في سمرقند.[88]
استعرت نار الحرب مرَّة أخرى بين الخانيَّة الشيبانيَّة والشاهانيَّة الصفويَّة في 15 محرم1007هـ الموافق فيه 9 (آب) أغسطس1598م، تولَّى القائد رُكن الدولة فرهاد خان قرامانلو قيادة الجُيُوش الصفويَّة وألحق الهزيمة بِالجيش الشيباني في رباطپريان بالقُرب من هراة، لكن بسبب عدم مُراعاة بعض المبادئ الحربيَّة تمكنت طائفة من جيش الأوزبك أن تهزم زُمرة من العساكر الصفويَّة ثم لاذت بِالفرار؛ وكذا لم تنجح جُهُود القائد فرهاد خان في هزيمة الأوزبك.[89][90] وعليه قدم الشاه عباس إلى هراة بِنفسه لِقيادة الجُند مُباشرة، وحين رأى الشاه قوَّة الأسوار لقلعة هراة أدرك أن الحصار قد يستمَّر لفترة طويلةً؛ فلجأ إلى إجبار العساكر الأوزبكيَّة على الخُرُوج من الحصن بِوساطة تكتيك التراجُع الظاهري - غير الواقعي فلمَّا خرج الجُند الأوزبك حاصرهم الصفويون وألحقوا بهم الهزيمة وفتحوا هراة، وأصيب في المعركة القائد الأوزبكي دين مُحمَّد خان وقُتل على يد مُقاتليه في طريق العودة.[91] وبهذا النصر انتهى الاحتلال الأوزبكي لخُراسان وعادت الديار الخُراسانيَّة إلى جناح الشاهانيَّة الصفويَّة.[92] لم ينتج النصر تحقيق السيطرة الصفوية على خراسان وحسب بل وجَّه ضربة إلى الدولة العُثمانيَّة المُنافسة، حيث ضمنت الحملة أمن الحُدود الشرقيَّة للإمبراطوريَّة الصفويَّة، فضلًا عن كسر الأوزبك فلم يتمكنوا من استرداد قوتهم إلا بعد زمن طويل. لم يركز الشاه عباس على حرب العُثمانيين إلا بعد ضمان الحُدُود الشرقيَّة فلمَّا تمَّ له هذا الأمر اندلعت حرب مع الأتراك العُثمانيين انتهت بِتحقيق انتصارات مُبهرة للشاه عباس الأكبر.[93][94]
صراعه مع العثمانيين
خاض العديد من المعارك مع العثمانيين وطلب مساعدة الملك الإسباني في تقديم دعم حربي خلال حروبه مع العثمانيين وذلك خلال استقباله مبعوث الملك الإسباني في مدينة مشهد سنة 1602.[95] توصل عام 1612، 998 هـ[96] إلى صلح اسطنبول مع الامبراطورية العثمانية الذي أنهى إلى حين الحرب الطويلة بين الجانبين.[95]
علاقته مع البرتغاليين
طلب مساعدة الملك الإسباني في حربه مع العثمانيين وكانت علاقته مع البرتغاليين والأسبان علاقة مد وجزر. قام عام 1603 بمحاصرة بندر عباس مما اضطر ملك إسبانيا لالتماس فك الحصار، فأجاب طلبه. قام عام 1614 بانتزاع جمبرون نهائياً من أيدي البرتغاليين حيث دمرت القلعة البرتغالية وبنيت قلعة جديدة على أطلالها.
علاقته مع الإنجليز
أنشأ علاقة طيبة مع الإنجليز من خلال شركة الهند الشرقية البريطانية التي حصلت على فرمان عام 1615 بالحصول على امتيازات خاصة في بلاد فارس.[95]
التحالف الأنكلو-فارسي
قام تحالف بين شاه فارس والإنجليز على طرد البرتغاليين واقتسام الغنيمة التي كانت احتكار التجارة في الخليج والسيطرة على هرمز.[95]
^نصرالله فلسفی (۱۳۹۱)، «جلد اول»، زندگانی شاه عباس اوّل، به کوشش فرید مرادی.، تهران: انتشارات نگاه، ص. ۷۹ تا ۸۱–۸۵ و ۸۶–۸۷، ۸۸ و ۸۹–۹۰ تا ۹۳
^مریم نژاد اکبری مهربان (۱۳۸۷)، «پشت جلد کتاب»، شاه عباس کبیر، زندگی و نبردهای قهرمان بزرگ ملی (ویراست دکتر مهدی افشار)، تهران: شرکت مطالعات و نشر کتاب پارسه
^Azerbaijan National Academy of Sciences, Institute of History named after A. Bakikhanov (2007). History of Azerbaijan, volume III (XIII-XVIII centuries). Baku: "Elm" publishing house. p. 239.
^Suleyman, Aliyarli (1996). History of Azerbaijan from the past to the 1870s. Baku: Azerbaijan. p. 405.