وقد امتاز أبو حيان بسعة الثقافة وحدة الذكاء وجمال الأسلوب، فهو رجل موسوعي الثقافة، سمي أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء كما، امتازت مؤلفاته بتنوع المادة، وغزارة المحتوى؛ فضلا عما تضمنته من نوادر وإشارات تكشف بجلاء عن الأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية للحقبة التي عاشها، وهي -بعد ذلك- مشحونة بآراء المؤلف حول رجال عصره من سياسيين ومفكرين وكتاب.
وجدير بالذكر أن ما وصلنا من معلومات عن حياة التوحيدي -بشقيها الشخصي والعام- قليل ومضطرب، وأن الأمر لا يعدو أن يكون ظنا وترجيحا؛ أما اليقين فلا يكاد يتجاوز ما ذكره أبو حيان بنفسه عن نفسه في كتبه ورسائله، ولعل هذا راجع إلى تجاهل أدباء عصره ومؤرخيه له، وهو موقف أثار استغراب ياقوت الحموي وحدا به إلى التقاط شذرات مما أورده التوحيدي في كتبه عن نفسه وتضمينها في ترجمة طويلة نسبيا شغلت عدة صفحات من معجمه، ولم يكتفي بهذا بل لقبه أيضا بشيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء؛ ربما كنوع من رد الاعتبار لهذا الأديب.
اسمه وكنيته
هو علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي، كنيته «أبو حيان»، وهي كنية غلبت على اسمه فاشتهر بها حتى أن ابن حجر العسقلاني ترجم له في باب الكنى.
مولده ووفاته
كانت ولادة أبي حيان في بغداد سنة 310 هـ؛ أما وفاته فكانت في شيراز سنة 414 هـ وفي هذين التاريخين خلاف؛ والمقطوع به أنه كان حيا سنة 400 هـ حسب ما تفيد بذلك بعض رسائله.
ومما يروى عن بعض أصحاب أبي حيان أنه لما حضرته الوفاة كان بين يديه جماعة من الناس فقال بعضهم لبعض: (اذكروا الله فإن هذا مقام خوف وكل يسعى لهذه الساعة) ثم جعلوا يذكرونه ويعظونه، فرفع أبو حيان رأسه إليهم وقال: (كأني أقدم على جندي أو شرطي !!! إنما أقدم على رب غفور) ومات من ساعته.
أصله ونسبته
اختلفت الآراء وتعددت حول أصل أبي حيان، فقيل أن أصله من شيراز وقيل من نيسابور ولكن الراجح أنه عربي الأصل.[2]
وكذلك اختلف في نسبته إلى التوحيد، فقيل سببها أن أباه كان يبيع نوعا من التمر العراقي ببغداد يطلق عليه «التوحيد» وهو الذي عناه المتنبي حين قال:
نشأ أبو حيان في عائلة من عائلات بغداد الفقيرة يتيما، يعاني شظف العيش ومرارة الحرمان؛ لا سيما بعد رحيل والده، وانتقاله إلى كفالة عمه الذي لم يجد في كنفه الرعاية المأمولة، فقد كان يكره هذا الطفل البائس ويقسو عليه كثيرا.
وحين شب أبو حيان عن الطوق، امتهن حرفة الوراقة، ورغم أنها أتاحت لهذا الوراق الشاب التزود بكم هائل من المعرفة جعل منه مثقفاموسوعيا إلا أنها لم ترضِ طموحه ولم تلّبِ حاجاته فانصرف عنها إلى الاتصال بكبار متنفذي عصره من أمثال ابن العميدوالصاحب بن عبادوالوزير المهلبي غير أنه كان يعود في كل مرة صفر اليدين، خائب الآمال، ناقما على عصره ومجتمعه.
هذه الإحباطات الدائمة، والإخفاقات المتواصلة؛ انتهت بهذا الأديب إلى غاية اليأس فأحرق كتبه بعد أن تجاوز التسعين من العمر، وقبل ذلك فّر من مواجهة ظروفه الصعبة إلى أحضان التصوف عساه يجد هنالك بعض العزاء فينعم بالسكينة والهدوء.
ولعل سر ما لاقاه أبو حيان في حياته من عناء وإهمال وفشل يعود إلى طباعه وسماته؛ حيث كان مع ذكائه
وعلمه وفصاحته واسع الطموح، شديد الاعتداد بالنفس، سوداوي المزاج... إلى غير ذلك من صفات شخصية وضعت في طريقه المتاعب وحالت دون وصوله إلى ما يريد.
سيرته العلمية
يظهر أبو حيان التوحيدي من خلال كتبه كمثقف متنوع المصادر واسع الاطلاع، على وعي بالحركة الثقافية واتصال ببعض رموزها في عصره؛ كما يظهر كأديب يمتاز أسلوبه بالترسل والبعد عن المحسنات البديعية.
والفقرات التالية ستكشف جوانب من سيرته العلمية:
مصادره العلمية
عمله بالوراقة
شكل عمل أبي حيان التوحيدي ردحا كبيرا من حياته في نسخ الكتب وبيعها رافدا أساسيا من روافده المعرفية؛ فقد جعلته القراءة المستمرة لما ينسخ -بحكم حرفته- على اتصال دائم بثقافة عصره، وعلى وعي بنتاجات العصور السابقة على عصره في مجالات الفكروالعلموالأدب والعلوم الأخرى، وهكذا عادت عليه هذه الحرفة بالنفع المعرفي إضافة إلى نفعها المادي رغم أنه كثيرا ما تذمر منها في كتبه.
ونقل الحافظ الذهبي عن ابن النجار قوله:
«سمع (يعني أبا حيان) جعفرا الخلدي، وأبابكر الشافعي، وأبا سعيد السيرافي، والقاضي أحمد بن بشر العامري».
تلاميذه
نقل الحافظ الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء عن ابن النجار قوله:
«روى عنه: علي بن يوسف الفامي، ومحمد بن منصور بن جيكان، وعبد الكريم بن محمد الداوودي، ونصر بن عبد العزيز الفارسي، ومحمد بن إبراهيم بن فارس الشيرازي». انتهى.
ثم عّقب الحافظ الذهبي بقوله:
«قلت: قد سمع منه أبو سعد عبد الرحمن بن ممجة الاصبهاني، وذلك في سنة أربع مئة، وهو آخر العهد به» انتهى.
وهذا الكتاب هو ثمرة لمسامرات سبع وثلاثين ليلة نادم فيها الوزير أبا عبد الله العارض. كتبها لصديقه أبي الوفاء المهندس، تقلب فيها الكلام وتنوع من أدب إلى فلسفة إلى شعر إلى مجون إلى فلك إلى حيوان إلى مشاءت ثقافة تلك العصرأن تأخذنا فهو أشبه بموسوعة غير مرتبة ودائرة معارف لا نظام فيها[3]
وبالإضافة إلى قيمة الكتاب الأدبية، هو أيضا يتفرد بنوادر لم يوردها غيره كما يكشف -وعلى امتداد ثلاثة أجزاء عن بعض جوانب الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية لتلك الأيام.
البصائر والذخائر وهو عبارة عن موسوعة اختيارات ضخمة، تقع في عشرة أجزاء، انتخبها أبو حيان من روائع ما حفظ وسمع وقرأ.
وقد بلغ تعداد اختيارات الكتاب سبعة آلاف وتسعا وسبعين اختيارا حسب النسخة المطبوعة منه بتحقيق الدكتورة وداد القاضي وهي تسعة أجزاء فقط.
والكتاب لا يقتصر على الاختيارات ولا تكمن قيمته فيها فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى قيمة ما أضافه التوحيدي إلى تلك الاختيارات من آراء وتعليقات حملت الكثير وكشفت عن الكثير..
الصداقة والصديق وهو عبارة عن رسالة أدبية تشتمل على الكثير من أخبار الأدب المتعلقة بموضوع الصداقة والأصدقاء، كما تشتمل على شيء من آراء أبي حيان التوحيدي وإلماحات إلى حياته، ومن ذلك قوله متحدثا عن نفسه: «فلقد فقدت كل مؤنس وصاحب، ومرافق ومشفق، ووالله لربما صليت في الجامع، فلا أرى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقال أو عصار، أو نداف أو قصاب، ومن إذا وقف إلى جانبي أسدرني بصنانه، وأسكرني بنتنه، فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى».
أخلاق الوزيرين ويسمى أيضا مثالب الوزيرين: وهو كتاب نادر في موضوعه، جمع فيه أبو حيان مشاهداته ومسموعاته عن الوزيرين: ابن العميدوـالصاحب بن عباد وكان قد اتصل بهما فحرماه ومنعاه ولم يجد عندهما ما كان يؤمله من حظوة وصلة وإكبار.
حذا أبو حيان التوحيدي حذو الجاحظ في أسلوبه الأدبي، حيث كتب بلغة مباشرة بعيدة عن التكلف، وأولى المعنى غاية اهتمامه، فهجر السجع والمحسنات البديعية الأخرى، ومال إلى الإطناب والتعليل والتقسيم وكثرة الاستشهاد بالنوادر والأخبار، كما مال إلى أسلوب الكتابة الساخرة وإن بدت سخرية مرة في كثير من الأحيان.
مواقف العلماء منه
يعد أبو حيان أحد الشخصيات المثيرة للجدل حتى الآن، فما زال الناس فيه بين مادح وقادح، ولعل تباين تلك المواقف يعود في جانب منه إلى شخصية الرجل، كما يعود في جانب آخر إلى ما نسب إليه أو تبناه هو من آراء ومواقف.
وفي الفقرة التالية بعض آراء العلماء:
موقف القادحين
اتهم القادحون أبا حيان بالضلال والزندقةوالإلحاد واختلاق الأخبار إلخ..
ومن آراء القادحين نذكر:
رأي الحافظ الذهبي
قدم الذهبي لترجمته في مصنفه سير أعلام النبلاء بقوله: (الضال الملحد أبو حيان، علي بن محمد بن العباس، البغدادي الصوفي، صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية، ويقال: كان من أعيان الشافعية... كان أبو حيان هذا كذابا قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان، تعرض لامور جسام من القدح في الشريعة والقول بالتعطيل، ولقد وقف الوزير الصاحب
كافي الكفاة على بعض ما كان يدغله ويخفيه من سوء الاعتقاد، فطلبه ليقتله، فهرب، والتجأ إلى أعدائه، ونفق عليهم تزخرفه وإفكه، ثم عثروا منه على قبيح دخلته وسوء عقيدته، وما يبطنه من الإلحاد، ويرومه في الإسلام من الفساد، وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح، ويضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح، فطلبه الوزير المهلبي، فاستتر منه، ومات في الاستتار، وأراح الله، ولم يؤثر عنه إلا مثلبة أو مخزية...
قال ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان: (بقي إلى حدود الأربع مائة ببلاد فارس وكان صاحب زندقة وانحلال، قال جعفر بن يحيى الحكاك قال لي أبو نصر السجزي إنه سمع أبا سعد الماليني يقول: قرأت الرسالة المنسوبة إلى أبي بكروعمر مع أبي عبيدة إلى علي على أبي حيان فقال: هذه الرسالة عملتها رداً على الروافض؛ وسببها أنهم كانوا يحضرون مجلس بعض الوزراء -يعني بن العميد- فكانوا يغلون في حال علي فعملت هذه الرسالة؛ قلت: فقد اعترف بالوضع) انتهى..
موقف المادحين
رأي تاج الدين السبكي
قال تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى:
(شيخ الصوفية وصاحب كتاب البصائر وغيره من المصنفات في علم التصوف... وقد ذكره ابن خلكان في آخر ترجمة أبي الفصل ابن العميد فقال: كان فاضلاً مصنفاً... وقد ذكر ابن النجار أبا حيان وقال: له المصنفات الحسنة كالبصائر وغيرها، وكان فقيراً صابراً متديناً إلى أن قال: وكان صحيح العقيدة قال الذهبي: كذا قال، بل كان عدواً لله خبيثا، وهذه مبالغة عظيمة من الذهبي) انتهى.
رأي ياقوت الحموي
قال ياقوت الحموي في معجم الأدباء:
«أبو حيان التوحيدي... صوفي السمت والهيئة، وكان يتأله والناس على ثقة من دينه... شيخ اصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام، ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، وعمدة لبني ساسان، سخيف اللسان، قليل الرضا عند الإساءة إليه والإحسان، الذم شانه، والثلب دكانه، وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك محدوداً محارفاً يشتكي صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه...» انتهى.
وقد أشار إلى هذه الحادثة ياقوت الحموي أثناء ترجمته له في معجم الأدباء وأورد رسالة طويلة من أبي حيان إلى أحد الفضلاء الذين لاموه على صنيعه.
من أهم الأعمال التي تناولت حياة أبي حيان التوحيدي هو العمل التلفزيوني الضخم الذي أنتجته مؤسسة دبي للإنتاج الفني وهو مسلسل أبو حيان التوحيدي[4] من تأليف الروائي خيري الذهبي وإخراج المخرج صلاح أبو هنود عام 1995
موقفه من التصوف
تتحدد صلة أبي حيان التوحيدي بالتصوف، كما تقول وداد القاضي، على صعيدين: الصعيد المسلكي، وفي كتبه أخبار كثيرة عن علاقاته بالمتصوفة ومعايشتهم لهم وانتحاله زيّهم، وعن آرائه في تفاوت إخلاصهم في الانصراف عن الدنيا ومغرياتها. والصعيد النظري، وهو متصل بعلم التصوف، وعلى هذا المستوى يقع فهم أبي حيّان لمعنى التصوف من أنه «اسم يجمع أنواعاً من الإشارة وضروباً من العبارة وجملته التذلل للحقّ بالتعزز على الخلق»، وأنه علم «يدور بين إشارات إلهية وعبارات وهمية».
التصوف عند التوحيدي : كما يقول جمال الدين فالح الكيلاني، فعل أكبر من اسمه وحقيقته أشدّ من رسمه، يشير إلى أعلامه بإجلال وتقدير قائلاً: «وبعد أن تخصّ هؤلاء فاعمم بأجمل تحية سائر ذوي الفضل من الصوفية، فأنهم ملوك الدنيا وسادة الآخرة». وهو يناديهم في رسائله بـ (يا سادتي) و(يا أحبائي) ويتذكّر أيامه الجميلة معهم، ويتحسّر على مضيّها ويتشوّق إليها، ويشكو سوء حاله وهو بعيد عنهم؛ ومن أجل ذلك يستعطفهم عليه مذكّراً إياهم بأن جزءاً مما يقاسيه إنما هو بسبب حبّه لهم ودعوته الناس إليهم، ويرجو أن يكونوا شفعاءه عند الله.[5]
يرى الدكتور محمد جابر الأنصاري أن التصوف كان تعويضًا لأبي حيان عن معاناته، وقد اعتبر التصوف والمتصوفون ملجأً طبيعيًا لرجل يائس رفض الإلحاد والانتحار، فتقاليد المتصوفة وأزياؤهم تجعل فقرهُ مظهرًا عاديًا ينسجم مع اتجاهه في الزهد[6]
مصادر ومراجع
ياقوت الحموي، معجم الأدباء، الجزء الخامس عشر، حرف العين.
الحافظ الذهبي، سير أعلام النبلاء، طبعة مؤسسة الرسالة، الجزء السابع عشر.
تاج الدين السبكي، طبقات الشافعية السبكي.
ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان، باب الكنى.
عبد الرزاق محيي الدين، أبو حيان التوحيدي في سيرته وفلسفته.