ابن حبان
ابن حِبَّان البُستي[3] (270- 354 هـ / 884- 965 م) هو الإمام العلامة الحافظ، المحدّث، المؤرخ، القاضي، شيخ خراسان، من كبار أئمة علم الحديث والجرح والتعديل. اسمه ونسبههو: أبو حاتم محمد بن حبان (بكسر الحاء وتشديد الباء) بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد بن سَهيد (بفتح السين وكسر الهاء) ويقال: ابن معبد بن هديّة (بفتح الهاء وكسر الدال وتشديد الياء) بن مرّة بن سعد بن يزيد بن مرّة بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم بن مر بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، التميمي الدارمي البُستي.[4] و«التَّميمي» نسبة إلى تميم جد القبيلة العربية المشهورة، وهو تميم بن مُر، الذي يصل نسبُه إلى عدنان، فهو عربي الأصل، أفغاني المولد والبلد.[5] مولدهأجمعت المصادر على أنّ الإمام ابن حبان وُلد في مدينة «بُست»، وهي مدينة كبيرة بين هراة وغزنة (من بلاد كابل عاصمة أفغانستان اليوم)، ولكن لم يُحدِّدوا سنة ولادته، ويؤخذ من أقوال العلماء أنه وُلِدَ بين سنة (270هـ — 279هـ)، وقد قاربَ الثمانين من عمره.[5] نشأته وحياتهنشأ الإمامُ ابنُ حبان في مدينة بُست، وأمضى فيها طفولته وأوائل شبابه، ثم غادرها إلا أنه عاد إليها في آخر عمره، وتوفي فيها. وكان الإمام ابن حبان من الأئمة الذين جمعوا بين الحديث والفقه. وقد ذكر العلماء أنَّ الإمام ابن حبان من المجتهدين، قال الإمام ابن كثير (ت 774هـ): «أحد الحفَّاظ الكبار المصَنِّفين المجتَهِدين، رحلَ إلى البلدان، وسمعَ الكثير من المشايخ...» وكان الإمام ابن حبان يَعيب على المحدِّثين الذين يهتمُّون بالإسناد فقط، دون الاهتمام بالمتون، كما كان يعيب على الفقهاء الذين يهتمُّون بالمتون فقط، دون الاهتمام بطرق الأحاديث. وقد أشارَ إلى هذا الموضوع في مقدمة (صحيحه)، وكادَ ينفرِد بمذهب خاص فيما يتعلَّق بزيادة الثقة، حيث اشترطَ في المحدِّث الثقة الذي تُقبَل منه الزيادة في المتن أن يكون فقيهًا. ومما اشتُهِرَ فيه الإمام ابن حبان هو الرحلة في طلب الحديث النبوي، حيث أنه قد استغرق قرابة أربعين سنة في رحلاته إلى أن رجع إلى وطنه بُست أخيرًا. وقد أشارَ الإمامُ ابنُ حبان إلى كثرة رحلاتِه قائلًا: «ولعلَّنا قد كتبنا عن أكثر من ألفَي شيخ من إسبيجاب إلى الإسكندرية»، و«إسبيجاب» إقليمٌ يقعُ أقصى الشرق الإسلامي في ذلك الوقت، وكانت ثغرًا من أشهر ثغور الإسلام على حدود القبائل التركية التي لم تدخل بعد في الإسلام، قال المقدسيُّ (ت نحو 380هـ): «ويُقال: إنَّ بها ألفًا وسبعمائة رباط، وهي ثغر جليل ودار جهاد»}}، وكان هذه الأربطةُ للمجاهدين المتطوِّعين، تَشترِك في بنائها مدُن ما وراء النهر قاطبة. كما أنّ الإسكندرية من أشهر مدن مصر، والتي كانت آخر مدينة يُرحَل إليها من جهة المغرب الإسلامي، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط في مقدمة تحقيقه لصحيح ابن حبان: «يريد من قوله هذا أن يبيِّن لنا أنه رحل إلى أقصى ما تمكن الرحلة إليه لطلب العلم في عصره... ولا يسعُنا إزاء هذا العدد الضخم من الشيوخ في تلك الرقعة الواسعة من الأرض إلا أن نُرَدِّد مع الذهبي قولَه: هكذا فلتكن الهِمَم». فرحلات الإمام ابن حبان شملَت أقصى الشرق وأقصى الغرب في البلاد الإسلامية التي كان يُرحَل إليها في ذلك الوقت.[5] شيوخهقال ابن حبان في مقدمة صحيحه: «لقد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ...». فقد زار معظم البلدان في الخلافة الإسلامية المترامية الأطراف، وفي كل بلد حلُّه كان له شيخ أو شيوخ تَلَقّى عنهم العلم، ورَوَى عنهم الحديث. وقد أخذ عن شيوخٍ كثيرين، كما أشار هو إلى ذلك، ومن أشهرهم:[4]
وغيرهم. وجدير بالذكر هنا أن الإمام ابن حبان، صاحبَ تلك الرحلات الطويلة، قد ألَّفَ معجَمًا لشيوخِه على المدن، وسمَّاه «المعجم على المدن»، وهو من الكتب المفقودة. كما أنه ألَّفَ كتابًا في آداب الرحلة، وهو من الكتب المفقودة. والذين يتبيَّنُ من استعراض شيوخ ابن حبان أنَّه رحلَ عدَّةَ رحلات بين إسبيجاب والإسكندرية، وليست رحلةً واحدة.[5] تلاميذهوقد أخذَ عن الإمام ابن حبان أئمة كثيرون، منهم:
وغيرهم من الأئمة الأعلام.[5] محنتهمفاد الحادثة أن ابن حبان أثناء إلقائه لأحد الدروس في نيسابور سئل عن النبوة فقال: «النبوة: العلم والعمل»، وكان يحضر مجلسه بعض الوعاظ فقام إليه واتهمه بالزندقة والقول بأن النبوة مكتسبة، وارتفعت الأصوات في المجلس وهاج الناس بين مؤيد للتهمة ونافٍ لها، وخاضوا في هذا الخبر على كل وجه، حتى كتب خصوم ابن حبان محضرًا بالواقعة وحكموا عليه فيه بالزندقة ومنعوا الناس من الجلوس إليه، وهُجر الرجل بشدة، وبالغوا في أذية ابن حبان وتمادوا في ذلك حتى كتبوا في أمر قتله وهدر دمه إلى الخليفة العباسي وقتها، فكتب بالتحري عن الأمر وقتله إن ثبتت عليه التهمة، وبعد أخذ ورد اتضحت براءة ابن حبان ولكنهم أجبروه على الخروج من نيسابور إلى سجستان. وهناك وجد أن الشائعات ما زالت تطارده والتهمة ما زالت تلاحقه. وتصدى له أحد الوعاظ هناك واسمه يحيى بن عمار وظل يؤلب عليه حتى خرج من سجستان وعاد إلى بلده «بست»، وظل بها حتى مات.[6] وفوق اتهامه بالبدعة والزندقة، ذكره بعضهم في الكذابين، مع أنه هو الذي قام بكشف أحوال الضعفاء والمجروحين، وبيّن شروط الثقات والمُعَدّلين، مثل أبو الفضل أحمد بن علي بن عمرو السليماني البيكندي البخاري، فمع أنه تلمذ لابن حبان، وأفاد منه، فقد ترجمه في شيوخه في باب الكذابين، ورد عليه الذهبي فقال: «رأيت للسليماني كتابا فيه حط على كبار، فلا يسمع منه ما شذ فيه». وليس من شأن ما هو شاذ أن يثبت أمام الحقائق الساطعة، فهي التي تمكث في الأرض، ويذهب الزبد جفاء، فقد ظل ابن حبان متألقاً في حياته، بل وبعد وفاته، حتى إن الناس كانوا يزورون قبره رغم أنف الحاسدين".[7] عقيدتهأنكر ابن حبان الحد والجهة لله، وقد صرح بذلك في مقدمة كتابه «الثقات»، فثار عليه بعض طلاب العلم، وطُرد من سجستان، ويفتخر بطرده يحيى بن عمار، حيث سأله أبو إسماعيل الهروي: هل رأيت ابن حبان؟ فقال: وكيف لم أره؟ نحن أخرجناه من سجستان. فيقول: كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين، قدم علينا، فأنكر الحد لله، فأخرجناه من سجستان.[8][9][10] مؤلفاتهاشتُهِرَ الإمام ابن حبان بكثرة التأليف في كثير من فروع الشريعة، فألَّف كتبًا كثيرة في الحديث، والفقه، والبلدان، وغيرها. ومن أهم وأشهر كتبه:[11]
وقد فُقِدت أكثرُ كتبه، ولم يصلنا منها سوى النذر اليسير، وذلك لأنه قد أوقف كتبه كلها لطلبة العلم في داره، فلما انتشرت الفتن والاضطرابات وضعف أمر الخلافة والسلطان، استولى المفسدون على داره وضاعت كتبه العلمية. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: «قال الخطيب: ذكر مسعود بن ناصر السجزي تصانيف ابن حبان، فقال: "تاريخ الثقات"، "علل أوهام المؤرخين" مجلد، "علل مناقب الزهري" عشرون جزءا، "علل حديث مالك" عشرة أجزاء، "علل ما أسند أبو حنيفة" عشرة أجزاء، "ما خالف فيه سفيان شعبة" ثلاثة أجزاء، "ما خالف فيه شعبة سفيان" جزءان، "ما انفرد به أهل المدينة من السنن" مجلد، "ما انفرد به المكيون" مجيليد، "ما انفرد به أهل العراق" مجلد، "ما انفرد به أهل خراسان" مجيليد، "ما انفرد به ابن عروبة عن قتادة، أو شعبة عن قتادة" مجيليد، "غرائب الأخبار" مجلد، "غرائب الكوفيين" عشرة أجزاء، "غرائب أهل البصرة" ثمانية أجزاء، "الكنى" مجيليد، "الفصل والوصل" مجلد، "الفصل بين حديث أشعث بن عبد الملك، وأشعث بن سوار" جزءان، كتاب "موقوف ما رفع" عشرة أجزاء، "مناقب مالك"، "مناقب الشافعي"، كتاب "المعجم على المدن" عشرة أجزاء، "الأبواب المتفرقة" ثلاثة مجلدات، "أنواع العلوم وأوصافها" ثلاثة مجلدات، "الهداية إلى علم السنن" مجلد، "قبول الأخبار"، وأشياء. قال مسعود بن ناصر: وهذه التواليف إنما يوجد منها النزر اليسير، وكان قد وقف كتبه في دار، فكان السبب في ذهابها مع تطاول الزمان ضعف أمر السلطان، واستيلاء المفسدين.»[13] وللدكتور محمد أبو صعيليك كتاب "زوائد ابن حِبَّان: دراسة ونقد" وهو رسالته للماجستير. تحصيله العلميقال ياقوت الحموي: «ومن تأمل تصانيفه تأمل مُنصف، علم أن الرجل كان بحراً في العلوم» ويقول أيضاً: «أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره». وقد عكست مُصنفاته عقليته المُبدعة، وثقافته الواسعة، فلم تكن ليُستغنى عنها بغيرها، بل صارت كما قال ياقوت الحموي: «عدّةٌ لأصحاب الحديث». وفي الفقه تَعِب عليه حتى صار من كبار فقهاء الشافعية، وأهَّلَهُ تمكُّنُه فيه أن يكون قاضياً، إذ لا يلي القضاء آنذاك إلا مُضطلع في الفقه، متمكّن من نواحيه، عارف بدقائق مسائله، فولي القضاء مدة طويلة في أكثر من بلدة، منها نسا وسمرقند، وغيرهما، ولعل هذا ما أثار حفيظة فقهاء الحنفية الذين كانوا يعدُّون وظيفة القضاء وقْفاً عليهم. وبرع أيضاً في علم اللغة العربية، حتى عرف أسرارها، وحقيقتها ومجازها، وتمثيلها واستعاراتها، مما مَكّنه أن يستنبط الأحكام الشرعية من نصوص القرآن والسنة، وكثيراً ما كان يُمَهِّد لاستنباطه بذكر القاعدة اللغوية المُتعارف عليها عند العرب، كقوله: "العرب تذكر الشيء في لُغتها بعددٍ معلوم ولا تُريد بذكرها ذلك العدد نفياً عما وراءه وقوله: «العرب في لغتها تطلق اسم البداءة على النهاية، واسم النهاية على البداءة»، وغير ذلك مما نثره وبَسَطه في كتبه، مما يكشِف عن مدى تعمُّقه في فهم اللغة العربية، وإداركه لمقاصد ألفاظها، وأسرار تراكيبها. ونَضج في علم الكلام حتى تأثرت به عقليته، وتلوَّن به فكره، فيذهب إلى تقسيم الشيء إلى كلي وجزئي، وتفريق الشيئين المتضادين والمتهاترين -على حد تعبيره-، إلى غير ذلك مما هو واضح في تعليقاته وتفسيراته واستنتاجاته في كتابه الصحيح، وما طريقة ترتيب كتابه هذا حسب التقاسيم والأنواع إلا ثمرة من ثمار تأثره بعلم الكلام، وقد ذكر ذلك الإمام جلال الدين السيوطي في «تدريب الراوي»، وما محنته التي تعرض إليها إلا نتيجة لاستيلاء مصطلحات هذا الفن على ألفاظه وعباراته، مما يُشير إلى أن نسيج فكره قد شُد من خيوط هذا الفن، ولم يكن علمه به مجرد إلمام واطلاع. بالإضافة إلى هذا فقد حصّل علم الطب والفلك، ويظهر أنه بلغ فيهما رتبة أمكن معها القول فيه: «كان عالماً بالطب والنجوم». وهذه الفنون والعلوم الكثيرة التي تمكّن منها الإمام ابن حبان جعلت الحافظ ابن حجر يقول عنه: «كان صاحب فنون، وذكاء مفرط، وحفظ واسع إلى الغاية، رحمه الله».[14] ثناء العلماء عليهمما لا شك فيه أن الحافظ ابن حبان يتبوأ مكانة مرموقة بين المحدثين، وأهل التأريخ؛ بحيث إنه كان ممن يشد إليه الرحال لسماع كتبه وأسانيده، وقد اعترف له معاصروه ومن جاء بعده بالعلم والفضل والتقدم:[4]
وقال في ميزان الاعتدال: «صاحب الأنواع ومؤلف كتابي الجرح والتعديل وغير ذلك كان من أئمة زمانه، وطلب العلم على رأس الثلاثمائة، وأدرك أبا خليفة، وأبا عبد الرحمن النسائي، وكتب بالشام والحجاز ومصر والعراق والجزيرة وخراسان، وولى قضاء سمرقند مدة، وكان عارفا بالطب والنجوم، والكلام والفقه، رأسا في معرفة الحديث».[15]
يقول شيخ الإسلام قاضي القضاة تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى:
تقديره لأهل البيتذكر ابن حبان في كتابة الثقات في ترجمة علي بن موسى الرضا: «..ما حلت بي شدة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات الله على جده وعليه ودعوت الله إزالتها عنى إلا أستجيب لي وزالت عنى تلك الشدة وهذا شئ جربته مراراً فوجدته كذلك أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته صلى الله عليه وسلم الله عليه وعليهم أجمعين..»[17][18][19][20] وفاتهتوفي بسجستان بمدينة بست ليلة الجمعة في شوال سنة 354هـ وهو في عشر الثمانين. انظر أيضاًالمراجع
المصادر
مصادر ترجمته:
|